بقلم د.عبدالمطلب بن أحمد السح
استشاري طب الأطفال و حديثي الولادة في مستشفى الحمادي
عضو الجمعية الوراثية الأمريكية و الجمعية الأوروبية للوراثة البشرية
عضو الجمعية العالمية لأبحاث الضعف البصري
العنوان: الرياض 11323 ، ص.ب 285264
جوال 053481015 ، هاتف 4643312 تحويلة 2329
فاكس 2791867
Email: dr_alsah@yahoo.com
فتحت باب الدار لأجد أمامي شاباً وسيما يرتدي لباساً مزج بين المدينة و الريف ، لقد باح حذاؤه الملطخ بطين القرية المعطاء بأسرار سبقت الضيف إليّ ، أما الشعر الأسود المغسول بمطر الشتاء فقد كان يقطر ماءً يعانق دموعاً على وجنتين احمرتا ببرد كانون القارس ، اقتربت منه لأصافحه ، و كانت أشعة الشمس خجلى بين الغيوم الداكنة ، و قرأت في وجهه فرحة اللقاء ، و بين السطور كان الحزن يرسم لوحة لقلب جريح ، قال : السلام عليكم يا دكتور عبدالله ، أسعد الله صباحك ، أنا سعيد بن علي الحسين ، أجبته : أهلاً يا عمو سعيد ، لقد أصبحت رجلاً _ ما شاء الله _ ، كيف حال أبيك و أهلك ؟، تفضل ادخل يا عزيزي ، قال :الحمد لله يا دكتور ، لقد أرسلني والدي بهذه الرسالة إليك ، و أخرج من جيبه كيساً من النايلون الأسود و قد أحكم ربطه على رسالة خشية أن يصيبها البلل ، طلبت منه أن يدنو من المدفأة التي كانت تقذف بحمم من اللهب الزرقاء والصفراء و الحمراء ، أخذت الكيس و فتحته ، لقد كان أبوه أحد المعروفين بالتقوى في قرية تل الينابيع ، و كما يقال كلمتهم مسموعة ، أخرجت الرسالة المطوية ، و ماهي إلا هنيهات حتى سار دمع جليدي على خديّ ، و سَرَت بعده برودة قطبية في عروقي ، و نبست شفتاي بعبارة : يرحمك الله يا أبا عدنان و يتغمدك بواسع رحمته ، لم تكن الرسالة إلا وصية أبي عدنان بأن توضع كل أمواله و أملاكه تحت تصرفي من أجل الأبحاث الخاصة بالعميان .
لقد كان أبو عدنان ( محمد الدويس ) صديق الطفولة التي عشناها أياماً لن يقوى الزمن على سلخها من الذاكرة ، لقد ترك محمد المدرسة و هو في الصف الرابع الإبتدائي ، و صار يساعد والده في عمله التجاري ، و عندما أصبحت أنا في المدرسة الثانوية في القرية المجاورة لم أعد أرى صديقي إلا قليلاً ، أما في سنوات الجامعة فقد كانت تمر الأشهر الطويلة دون أن ألتقي بمحمد .
لقد درست الطب ، و ربما كان لجدي محي الدين _ يرحمه الله _ تأثير كبير في دخولي كلية الطب ، و من ثم تخصصي في طب العيون ، لقد كان مصاباً بالداء السكري ، و كنت أسمع منه كلاماً كثيراً حول ذلك المرض جعلني أكرهه قبل أن أعرف ماهيته ، لقد أثر السكري على عيني جدي ، و لا زلت أذكر تلك النظارات الخضراء السميكة التي كانت تشغل حيزاً كبيراً من وجهه القمري ذي اللحية الكثة البيضاء .
لقد كان صديقي أبو عدنان يكره المعاقين أو " المشوهين " كما يسميهم ، و من ضمنهم العميان ، لقد كنا نسمع منه كلمات السخرية و الإستهزاء بهم بشكل متكرر ، و لطالما حذرناه أنا و غيري من ذلك ، كنت أقول له : اتقِ الله يا أبا عدنان ، لقد خلق الإنسان في كَبَد ، إن أي إنسان معرض في أي لحظة ليتحول إلى معوق مثل هؤلاء يا أخي محمد ، و لكن صوت " أرغيلة " أبي عدنان كان يصل لأذنيه دون كلامي ، و منظر الدخان المتصاعد منها كان يسر ناظريه أكثر من نصائحي .
لقد عرض علي الأموال مراراً كي أترك الجامعة و الطب و أعمل معه ، و كان يقول عبارته الشهيرة أنت المخ و أنا المال ! ، ما رأيك يا عبدالله ؟، كنت ابتسم له و أقول : الله يهديك يا أخي محمد ، فيتابع و يقول : على الأقل ادرس شيئاً تستفيد منه و تفيد ، مالك و للعيون ؟!.
لقد كانت وفاة ابنه عدنان _ يرحمه الله _ و هو في السادسة من عمره إثر إصابته بالتهاب في الدماغ نقطة تحوّل حقيقية في حياته ، لقد اقترب من حياة الناس و همومهم ، و صار يفهم معنى المرض و الوفاة و ربما الإعاقة ، لقد بدأ ميزان المال يخبو في عقله ليحل مكانه ميزان آخر ، و ما هي إلا سنوات حتى أتاه امتحان قاصم آخر ، فلقد توفيت أم عدنان _ يرحمها الله _ التي كثيراً ما كانت تبكي عندما تراه يسيء بلسانه لعباد الله المعوقين .
منذ عشر سنوات زرت قرية تل الينابيع ، و كالعادة جاء أبو عدنان ليسلّم علي ، و بعد أن ذهب الجميع ، و بقي معي صديق الطفولة لوحده ، و كانت عقارب الساعة تدنو من الثانية و النصف صباحاً ، قال لي أبو عدنان : أريد أن أكلِّمك يا دكتور بموضوع ، و لكنني خجل حقاً ، قلت له باسماً : قل يا رجل، هات ما عندك ، هل تخجل مني ؟ ، لا ..لا يحق لك ذلك أبداً .
مدَّ يده المرتعشة إلى جيبه ليخرج نظارات بإطار أخضر غامق أدارت سنين ذاكرتي إلى وجه جدي البشوش ، و ظننت أنه سيعطيني إياها ، و لكنه فاجأني بوضع العدسات على وجهه الذي بدأ الزمان يطغى على تورده ، و هنا لم أتمالك نفسي فضحكت ، و قلت له : خيراً - إن شاء الله - يا أبا عدنان ، ماذا حدث ؟ ، قال لي : أرأيت ؟ ، ألا يحق لي أن أخجل من نفسي قبل أن أخجل منك ؟ ، يا رب سامحني ، كم سخرت من أولئك المساكين ؟، لقد شعرت بضعف في بصري منذ مدة، و لأنني خجلت من هذا الأمر لم أذهب إليك في العيادة ، و كنت أحتفظ بنظارة المرحوم في الصندوق ، و عندما جربتها وجدت أن الأمور أفضل ، و صرت أخذها معي حيثما ذهبت ، و عندما يلزم الأمر أضعها دون أن يلحظني أحد ، و لكن نظري كان يزداد ضعفاً بمرور الأيام يا دكتور ، و الله مصيبة يا أبا همام .
قلت له : أنا عاتب عليك يا أبا عدنان ، هل تخجل من أخيك في قضية كهذه ؟، و ردّ علي بسرعة يعتصرها الحزن و الألم : أشعر بالخجل من كل الناس ، ماذا سيقولون عني إن شاهدوني أضع النظارات ؟ ، أجبته بثقة : لن يقولوا شيئاً ، لأنك الآن إنسان آخر بنظرهم ، و تابعت مازحاً : لقد نسي الناس أبا عدنان الهمزة اللمزة ، أنت الآن … ، و قاطعني و هو يهز رأسه : لا …لا … أنا … ، قاطعته بالمثل مشجعاً إياه ، و استمر منوال الحديث ينسج ليلتنا الصيفية تلك و التي كاد القمر أن يكون فيها بدراً ، لقد تحدثت معه و ربما لأول مرة و بإسهاب عن أمراض العيون ، و خرجنا من المنزل سوية لصلاة الفجر و النظارات العتيقة مبتهجة بتربعها على مقدمة وجهه .
في يوم السبت جاء أبو عدنان إلى عيادتي ، و فحصت عينيه ، و عرفت أن إصابته ستودي ببصره في يوم ما ، و صفت له نظارة مناسبة ، و شعرت أنه قد عرف بعضاً من خبايا الأيام .
لقد كان تلميذُ الحياة _ و منذ مدة _ سنداً قوياً لي في أبحاثي ، لقد أغدق عليّ المال ، و أحيانا كان يجلس معي في المختبر بصمت و سكينة يرقب عملي ، و يحاول خدمتي بأي شكل كي لا أضيّع أي ثانية من الوقت .
لقد فقد صديق العمر بصره حقاً بعد سنوات قليلة ، و لكنه كان يحمد الله على الدوام ، لقد كان كثير التردد على مختبري برفقة سعيد ابن جاره الذي تعهد أبو عدنان تدريسه على نفقته الخاصة .
لقد عملت في مختبري مع فريق صغير ، و كان يوماً رائعا عندما استطعنا ربط عملنا بمركز البحوث العلمية الذي زودنا بألياف خاصة يمكن توصيلها إلى الدماغ ، فقد أنجزنا عدسات بصرية اصطناعية ، و الآن أضحى بإمكاننا تطبيق ذلك عمليا ، لقد كان أبو عدنان أول المتبرعين للخضوع للتجربة التي ارتقبها الكثيرون ، لقد كان يثق بي بشكل يدفعني للعمل أكثر ، و في اليوم المحدد دخل غرفة العمليات و هو يتمتم بالدعاء ، و بعد أكثر من ثلاث ساعات خرج منها ، و عندما أفاق من تأثير المخدر ، و تحركت جفونه على عينين اصطناعيتين ، صاح بأعلى صوته : لا إله إلا الله ، و أجهش بالبكاء .
لا يوجد حالياً أي تعليق