إن الإسلام كان سبّاقاً إلى الإقرار للإنسان بحقوقه، وإلى الحثّ على صون هذه الحقوق وحفظها، وإلى إحاطة هذه الحقوق بالرعاية وشمولها بالعناية من أولى الأمر. لأن الإسلام، وهو دين اللَّه ورسالته الخاتمة إلى البشرية، أقام المنهجَ المتكاملَ للحياة الإنسانية، على قواعد ثابتة، وجعل له أصولاً راسخة ومبادئ خالدة. بل إن الإسلام اعتبر التفريط في حقّ من حقوق الإنسان، تفريطاً في جنب اللَّه، وتعدّياً على حدوده، وخروجاً على سنة اللَّه في خلقه.
ومن أجل ذلك، كان حقّ الفرد والمجتمع في التعاليم الإسلامية، حقّاً للَّه تعالى، وسمي بذلك لشمول نفعه وعظيم خطره وبالغ تأثيره على الحياة الإنسانية كلِّها(7).
والحقُّ في الشريعة الإسلامية يمثّل القاعدة الأساس للتشريع كلِّه. وتأسيساً على هذه القاعدة، فإن حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي، هي حقوق اللَّه يترتَّب على الوفاء بها وأدائها على خير الوجوه، خلوصُ العبودية للَّه، والطاعةُ له سبحانه، والقيامُ بتكاليف شرعه الحنيف. وبذلك يرتقى المفهومُ الإسلاميُّ لحقوق الإنسان، إلى مقام العبادة الرفيع، باعتبار أن هذه الحقوق، هي في الشريعة الإسلامية، واجباتٌ دينيةٌ، ومن الفروض الشرعية. وهذه درجةٌ من التكليف تطوق الإنسانَ بمسؤولية كبرى، أمام ربّه سبحانه وتعالى، ثم أمام نفسه ومجتمعه والإنسانية جمعاء.
وينسجم هذا المفهومُ مع المعنى اللغوي للحقّ ؛ ففي اللغة، الحقُّ هو الثابتُ الذي لايسوغ إنكارُه، وهو الحكم المطابق للمعاني، ويقابله الباطل(. فالحقّ إذن، هو الثبوت. وهذا المعنى يعمّق الإيمان بالحقوق جميعاً، حقوق الفرد والمجتمع، ويقوي الثقة واليقين في أن حقوق الإنسان هي من صميم التعاليم الإسلامية.
وبهذا المعنى، فإن حقوق الإنسان في الإسلام، هي من الثوابت التي يقوم عليها المجتمعُ الإسلاميُّ، فهي ليست حقوقاً سياسية ودستورية فحسب، وهي ليست نتاجاً فكرياً يمثّل مرحلةً من تطوّر العقل الإنساني، وليست حقوقاً طبيعية كما يعبر عنها في القانون الوضعي، ولكنها في التعاليم الإسلامية، واجبات دينية يُكلَّف بها الفردُ والمجتمع، كلٌّ في نطاقه، وفي حدود المسؤولية التي ينهض بها. وبذلك فإن الفرد في المجتمع الإسلامي يتشرَّب هذه الحقوقَ، ويتكيّف معها، بحيث تصبح جزءاً من مكوّناته النفسية والعقلية والوجدانية، ويحافظ عليها، لأن في المحافظة عليها، أداءً لواجب شرعي، وليس من حقه أن يفرط فيها، لأن التفريط فيها تقصيرٌ في أداء هذا الواجب.
وما دامت حقوق الإنسان تتمثّل أساساً، وتبدأ وتنتهي، من احترام كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، فإن الأصل الثابت الذي تقوم عليه التعاليم الإسلامية، هو الاحترام الكامل والوافر للكرامة الإنسانية التي يتسم المفهومُ الإسلاميُّ لها بخاصيتَيْ الشمول والعموم، فيكتسب بذلك هذا المفهومُ عمقاً ورحابةً وامتداداً في الزمان والمكان. وكما هو مقرَّر شرعاً، فإن المفهوم الإسلامي للكرامة الإنسانية يرتقى إلى قمة عالية من العدل المطلق، ومن المساواة الكاملة، ومن الحق والإنصاف اللذين لا تشوبهما شائبة. يقول تعالى { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً }(9). ويدل سياق الآية على أن التكريم هو التفضيل، للترابط والتكامل بين بدء الآية وختامها : ( لقد كرمنا بني آدم )، و( فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). وبهذا التكريم والتفضيل، تأصَّلت الكرامة في الأصل الإنساني تأصيلاً ؛ فتكريم اللَّه لعباده، هو تشريفٌ لهم ما بعده تشريف(10). ومن تكريم اللَّه لعباده كفالةُ الحقوق لهم في شريعته التي شرعها للناس كافة.
كذلك فإن الإسلام أكّد المساواة بين البشر بقوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم }(11). وهذه المساواةُ تنفي التمييزَ القائم على العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين. كما نادى الإسلام بوحدة الأسرة الإنسانية، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، > كلكم من آدم وآدم من تراب <، وقال أيضاً > لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا َّ بالتقوى <(12).
وفي التعاليم الإسلامية نصوصٌ كثيرةٌ تبيّن حقَّ الإنسان في التنقّل بحرية، وحقّه في حصانة مسكنه، وعدم تجريمه دون بيّنة ظاهرة، قال تعالى { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور }(13)، وقال تعالى { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها }(14)، وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(15). كذلك دعا الإسلام إلى التكافل بين أبناء المجتمع لتحقيق الحياة الإنسانية الكريمة، والتحرر من الفقر والحاجة، قال تعالى { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }(16).
وإذا كان من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإن جماع ذلك كلِّه، هو حفظُ كيان الإنسان. والحقوق المقرّرة للإنسان فطرةً وشرعاً، هي أساس كيانــه، وهي جوهر وجوده، وهي عصب حياته، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : > حرام عليكم أموالكم ودماؤكم <(17).
كما أن التعاليم الإسلامية تؤكد على المساواة التامة في كفالة حقوق الإنسان بين الرجل والمرأة. وهذه المساواة الحقيقية، تمثّل العدل في أرقى مظاهره، وذلك مصداقاً لقوله تعالى { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة }(18)، وقوله تعالى { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }(19)، وفي قوله عزَّ وجل { فاستجاب لهم ربُّهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى }(20). وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : > النساء شقائق الرجال <(21).
كما حفظ الإسلام حقوق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية، بما في ذلك حقُّهم في حرية الاعتقاد والتحاكم إلى شرعهم، وإقامة العدل لهم وحفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومعاملتهم بالحسنى، فهم مواطنون لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في جوار اللَّه وذمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فاللَّه سبحانه وتعالى، خالق الخلق أجمعين، لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وفي ذلك العدل كلُّه، والرحمة كلُّها، والمساواة بالمعنى الحقيقي والعميق. ومن العدل الإلاهي، تنبثق حقوق الإنسان في الإسلام، لأنها حقوق اللَّه، تنفع الإنسان وتصلح أحواله ويمكث أثرها في الأرض. وهي ليست حقوقاً للرجل دون المرأة، وإنما هي للإنسان عموماً، أيّا كان أصله وجنسه وعرقه ودينه. وهذه المساواة لم تعرفها الإنسانية، إلاَّ في المجتمع الإسلامي، ولم تدركها البشرية إلاَّ بعد خمسة عشر قرناً من بزوغ الإسلام.
لقد وضع الإسلام القواعد الثابتة والمبادئ الراسخة لكرامة الإنسان، ولمبدأ المساواة وعدم التمييز، ولوحدة الأسرة الإنسانية، وللدعوة إلى التعاون بين الشعوب، ولحرية الإنسان في العبادة، ولحق الحياة، ولحق الحرية، ولحرمة العدوان على مال الإنسان وحصانة بيته، ولقاعدة أن الأصل في الإنسان هو البراءة، ولمبدأ التكافل الاجتماعي. وهذه هي المبادئ العامة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي كان الإسلام سبَّاقاً إلى إقرارها، وكان المجتمع الإسلاميّ سبَّاقاً إلى ممارستها والحياة في كنفها.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 من صفر سنة 1369 هـ/10 من ديسمبر عام 1948م، قد أحاط بأغلب ما للإنسان المعاصر من حقوق، فإن للرؤية الإسلامية لهذه الحقوق، تميّزاً يتجاوز الأسبقية الزمنية التي جاء بها الإسلام في حقوق الإنسان قبل هذا الإعلان بنحو أربعة عشر قرناً، عندما ترتفع هذه الرؤية الإسلامية بهذه (الحقوق)، إلى مرتبة (الضرورات) ودرجة (الفرائض والواجبات)(22).
فالتطور الذي عرفته الحضارة الغربية في منتصف القرن العشرين في مجال (حقوق الإنسان)، قد عرفته الحضارة الإسلامية، بل مارسته قديماً، لا كمجرد (حقوق ) للإنسان، وإنما (كفرائض إلهية وتكاليف وواجبات شرعية)، لا يجوز لصاحبها ــ الإنسان ــ أن يتنازل عنها أو يفرط فيها أو يهملها، حتى بمحض إرادته إن هو أراد. وتلك زاوية لرؤية القضية، ودرجة في تناولها، تمثّلان إضافة (نوعية ... وكيفية) تزيد الرؤيةَ الإسلاميةَ غنًى وأصالةً وعمقاً، وتوفر المزيد من الفعالية والتأثير لهذه (الحقوق) كي تحقق المزيد من الأمن الاجتماعي للإنسان(23).
ولقد فصَّل الشيخ سيد سابق في كتابه (فقه السنة)، الذي صدر قبل سنة 1949، حقوق الإنسان في الإسلام، تفصيلاً دقيقاً، استوفى فيه المقومات الرئيسَة والمرتكزات الأساس لهذه الحقوق، في وقتٍ متزامنٍ مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي خطوة رائدة تستحق منا كل التقدير، حيث بيَّن أن من الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان :
ــ حق الحياة : لكل فرد حق صيانة نفسه، وحماية ذاته، فلا يحل الاعتداء عليها إلاَّ إذا قتل، أو أَفْسَدَ في الأرض فساداً يستوجب القتل.
ــ حق صيانة المال : فكما أن النفس معصومة، فكذلك المال، فلا يحل أخذ المال بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة.
ــ حق العرض : ولا يحل انتهاك العرض حتى ولو بكلمة نابية.
ــ حق الحرية : ولم يكتف الإسلام بتقرير صيانة الأنفس، وحماية الأعراض والأموال، بل أقرَّ حرية العبادة، وحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة التي يمارسها الإنسان لكسب عيشه، وحرية الاستفادة من جميع مؤسسات الدولة.
وأوجب الإسلام على الدولة المحافظة على هذه الحقوق جميعها. ولا تنتهي حقوق الإنسان عند هذا الحدّ، بل هناك حقوق أخرى، منها :
ــ حق المأوى : فالإنسان له الحق في أن يأوي إلى أي مكان، وأن يسكن في أي جهة، وأن ينتقل في الأرض دون حجر عليه أو وضع عقبات في طريقه، ولا يجوز نفي أي فرد أو إبعاده أو سجنه إلاَّ في حالة إذا ما اعتدى على حق غيره، ورأى القانون أن يعاقبه بالطرد أو بالحبس، ويكون ذلك في حالة الاعتداء على الغير والإخلال بالأمن، وإرهاب الأبرياء(24).
ومن هذا المنظور الشمولي إلى حقوق الإنسان، وبهذا الفهم العميق لمقاصد الشريعة ومكارمها، يتجلى لنا، بالوضوح الكامل، كيف أن الإسلام كفل للإنسان حقوقاً لم يكفلها له دينٌ من الأديان، ولا مذهب من المذاهب، ولا فلسفة من الفلسفات، كما يتضح لنا أن المفهومَ الإسلاميَّ لحقوق الإنسان، هو الأكثر عمقاً وأصالةً والأشدّ انسجاماً وتوافقاً مع الفطرة الإنسانية، لأنه مستمدٌّ من هدي اللَّه تعالى، الذي هو رحمةٌ للعالمين.
ومن أجل ذلك، كان حقّ الفرد والمجتمع في التعاليم الإسلامية، حقّاً للَّه تعالى، وسمي بذلك لشمول نفعه وعظيم خطره وبالغ تأثيره على الحياة الإنسانية كلِّها(7).
والحقُّ في الشريعة الإسلامية يمثّل القاعدة الأساس للتشريع كلِّه. وتأسيساً على هذه القاعدة، فإن حقوق الإنسان في المنظور الإسلامي، هي حقوق اللَّه يترتَّب على الوفاء بها وأدائها على خير الوجوه، خلوصُ العبودية للَّه، والطاعةُ له سبحانه، والقيامُ بتكاليف شرعه الحنيف. وبذلك يرتقى المفهومُ الإسلاميُّ لحقوق الإنسان، إلى مقام العبادة الرفيع، باعتبار أن هذه الحقوق، هي في الشريعة الإسلامية، واجباتٌ دينيةٌ، ومن الفروض الشرعية. وهذه درجةٌ من التكليف تطوق الإنسانَ بمسؤولية كبرى، أمام ربّه سبحانه وتعالى، ثم أمام نفسه ومجتمعه والإنسانية جمعاء.
وينسجم هذا المفهومُ مع المعنى اللغوي للحقّ ؛ ففي اللغة، الحقُّ هو الثابتُ الذي لايسوغ إنكارُه، وهو الحكم المطابق للمعاني، ويقابله الباطل(. فالحقّ إذن، هو الثبوت. وهذا المعنى يعمّق الإيمان بالحقوق جميعاً، حقوق الفرد والمجتمع، ويقوي الثقة واليقين في أن حقوق الإنسان هي من صميم التعاليم الإسلامية.
وبهذا المعنى، فإن حقوق الإنسان في الإسلام، هي من الثوابت التي يقوم عليها المجتمعُ الإسلاميُّ، فهي ليست حقوقاً سياسية ودستورية فحسب، وهي ليست نتاجاً فكرياً يمثّل مرحلةً من تطوّر العقل الإنساني، وليست حقوقاً طبيعية كما يعبر عنها في القانون الوضعي، ولكنها في التعاليم الإسلامية، واجبات دينية يُكلَّف بها الفردُ والمجتمع، كلٌّ في نطاقه، وفي حدود المسؤولية التي ينهض بها. وبذلك فإن الفرد في المجتمع الإسلامي يتشرَّب هذه الحقوقَ، ويتكيّف معها، بحيث تصبح جزءاً من مكوّناته النفسية والعقلية والوجدانية، ويحافظ عليها، لأن في المحافظة عليها، أداءً لواجب شرعي، وليس من حقه أن يفرط فيها، لأن التفريط فيها تقصيرٌ في أداء هذا الواجب.
وما دامت حقوق الإنسان تتمثّل أساساً، وتبدأ وتنتهي، من احترام كرامة الإنسان من حيث هو إنسان، فإن الأصل الثابت الذي تقوم عليه التعاليم الإسلامية، هو الاحترام الكامل والوافر للكرامة الإنسانية التي يتسم المفهومُ الإسلاميُّ لها بخاصيتَيْ الشمول والعموم، فيكتسب بذلك هذا المفهومُ عمقاً ورحابةً وامتداداً في الزمان والمكان. وكما هو مقرَّر شرعاً، فإن المفهوم الإسلامي للكرامة الإنسانية يرتقى إلى قمة عالية من العدل المطلق، ومن المساواة الكاملة، ومن الحق والإنصاف اللذين لا تشوبهما شائبة. يقول تعالى { ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً }(9). ويدل سياق الآية على أن التكريم هو التفضيل، للترابط والتكامل بين بدء الآية وختامها : ( لقد كرمنا بني آدم )، و( فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً). وبهذا التكريم والتفضيل، تأصَّلت الكرامة في الأصل الإنساني تأصيلاً ؛ فتكريم اللَّه لعباده، هو تشريفٌ لهم ما بعده تشريف(10). ومن تكريم اللَّه لعباده كفالةُ الحقوق لهم في شريعته التي شرعها للناس كافة.
كذلك فإن الإسلام أكّد المساواة بين البشر بقوله تعالى { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند اللَّه أتقاكم }(11). وهذه المساواةُ تنفي التمييزَ القائم على العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين. كما نادى الإسلام بوحدة الأسرة الإنسانية، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ، > كلكم من آدم وآدم من تراب <، وقال أيضاً > لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض، إلا َّ بالتقوى <(12).
وفي التعاليم الإسلامية نصوصٌ كثيرةٌ تبيّن حقَّ الإنسان في التنقّل بحرية، وحقّه في حصانة مسكنه، وعدم تجريمه دون بيّنة ظاهرة، قال تعالى { هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه وإليه النشور }(13)، وقال تعالى { لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها }(14)، وقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}(15). كذلك دعا الإسلام إلى التكافل بين أبناء المجتمع لتحقيق الحياة الإنسانية الكريمة، والتحرر من الفقر والحاجة، قال تعالى { والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم }(16).
وإذا كان من مقاصد الشريعة الإسلامية حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال، فإن جماع ذلك كلِّه، هو حفظُ كيان الإنسان. والحقوق المقرّرة للإنسان فطرةً وشرعاً، هي أساس كيانــه، وهي جوهر وجوده، وهي عصب حياته، قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : > حرام عليكم أموالكم ودماؤكم <(17).
كما أن التعاليم الإسلامية تؤكد على المساواة التامة في كفالة حقوق الإنسان بين الرجل والمرأة. وهذه المساواة الحقيقية، تمثّل العدل في أرقى مظاهره، وذلك مصداقاً لقوله تعالى { ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولائك يدخلون الجنة }(18)، وقوله تعالى { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة }(19)، وفي قوله عزَّ وجل { فاستجاب لهم ربُّهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى }(20). وقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : > النساء شقائق الرجال <(21).
كما حفظ الإسلام حقوق غير المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية، بما في ذلك حقُّهم في حرية الاعتقاد والتحاكم إلى شرعهم، وإقامة العدل لهم وحفظ دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ومعاملتهم بالحسنى، فهم مواطنون لهم حقوقهم وعليهم واجباتهم في جوار اللَّه وذمة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم .
فاللَّه سبحانه وتعالى، خالق الخلق أجمعين، لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى، وفي ذلك العدل كلُّه، والرحمة كلُّها، والمساواة بالمعنى الحقيقي والعميق. ومن العدل الإلاهي، تنبثق حقوق الإنسان في الإسلام، لأنها حقوق اللَّه، تنفع الإنسان وتصلح أحواله ويمكث أثرها في الأرض. وهي ليست حقوقاً للرجل دون المرأة، وإنما هي للإنسان عموماً، أيّا كان أصله وجنسه وعرقه ودينه. وهذه المساواة لم تعرفها الإنسانية، إلاَّ في المجتمع الإسلامي، ولم تدركها البشرية إلاَّ بعد خمسة عشر قرناً من بزوغ الإسلام.
لقد وضع الإسلام القواعد الثابتة والمبادئ الراسخة لكرامة الإنسان، ولمبدأ المساواة وعدم التمييز، ولوحدة الأسرة الإنسانية، وللدعوة إلى التعاون بين الشعوب، ولحرية الإنسان في العبادة، ولحق الحياة، ولحق الحرية، ولحرمة العدوان على مال الإنسان وحصانة بيته، ولقاعدة أن الأصل في الإنسان هو البراءة، ولمبدأ التكافل الاجتماعي. وهذه هي المبادئ العامة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي كان الإسلام سبَّاقاً إلى إقرارها، وكان المجتمع الإسلاميّ سبَّاقاً إلى ممارستها والحياة في كنفها.
وإذا كان الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 18 من صفر سنة 1369 هـ/10 من ديسمبر عام 1948م، قد أحاط بأغلب ما للإنسان المعاصر من حقوق، فإن للرؤية الإسلامية لهذه الحقوق، تميّزاً يتجاوز الأسبقية الزمنية التي جاء بها الإسلام في حقوق الإنسان قبل هذا الإعلان بنحو أربعة عشر قرناً، عندما ترتفع هذه الرؤية الإسلامية بهذه (الحقوق)، إلى مرتبة (الضرورات) ودرجة (الفرائض والواجبات)(22).
فالتطور الذي عرفته الحضارة الغربية في منتصف القرن العشرين في مجال (حقوق الإنسان)، قد عرفته الحضارة الإسلامية، بل مارسته قديماً، لا كمجرد (حقوق ) للإنسان، وإنما (كفرائض إلهية وتكاليف وواجبات شرعية)، لا يجوز لصاحبها ــ الإنسان ــ أن يتنازل عنها أو يفرط فيها أو يهملها، حتى بمحض إرادته إن هو أراد. وتلك زاوية لرؤية القضية، ودرجة في تناولها، تمثّلان إضافة (نوعية ... وكيفية) تزيد الرؤيةَ الإسلاميةَ غنًى وأصالةً وعمقاً، وتوفر المزيد من الفعالية والتأثير لهذه (الحقوق) كي تحقق المزيد من الأمن الاجتماعي للإنسان(23).
ولقد فصَّل الشيخ سيد سابق في كتابه (فقه السنة)، الذي صدر قبل سنة 1949، حقوق الإنسان في الإسلام، تفصيلاً دقيقاً، استوفى فيه المقومات الرئيسَة والمرتكزات الأساس لهذه الحقوق، في وقتٍ متزامنٍ مع صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وفي خطوة رائدة تستحق منا كل التقدير، حيث بيَّن أن من الحقوق التي كفلها الإسلام للإنسان :
ــ حق الحياة : لكل فرد حق صيانة نفسه، وحماية ذاته، فلا يحل الاعتداء عليها إلاَّ إذا قتل، أو أَفْسَدَ في الأرض فساداً يستوجب القتل.
ــ حق صيانة المال : فكما أن النفس معصومة، فكذلك المال، فلا يحل أخذ المال بأي وسيلة من الوسائل غير المشروعة.
ــ حق العرض : ولا يحل انتهاك العرض حتى ولو بكلمة نابية.
ــ حق الحرية : ولم يكتف الإسلام بتقرير صيانة الأنفس، وحماية الأعراض والأموال، بل أقرَّ حرية العبادة، وحرية الفكر، وحرية اختيار المهنة التي يمارسها الإنسان لكسب عيشه، وحرية الاستفادة من جميع مؤسسات الدولة.
وأوجب الإسلام على الدولة المحافظة على هذه الحقوق جميعها. ولا تنتهي حقوق الإنسان عند هذا الحدّ، بل هناك حقوق أخرى، منها :
ــ حق المأوى : فالإنسان له الحق في أن يأوي إلى أي مكان، وأن يسكن في أي جهة، وأن ينتقل في الأرض دون حجر عليه أو وضع عقبات في طريقه، ولا يجوز نفي أي فرد أو إبعاده أو سجنه إلاَّ في حالة إذا ما اعتدى على حق غيره، ورأى القانون أن يعاقبه بالطرد أو بالحبس، ويكون ذلك في حالة الاعتداء على الغير والإخلال بالأمن، وإرهاب الأبرياء(24).
ومن هذا المنظور الشمولي إلى حقوق الإنسان، وبهذا الفهم العميق لمقاصد الشريعة ومكارمها، يتجلى لنا، بالوضوح الكامل، كيف أن الإسلام كفل للإنسان حقوقاً لم يكفلها له دينٌ من الأديان، ولا مذهب من المذاهب، ولا فلسفة من الفلسفات، كما يتضح لنا أن المفهومَ الإسلاميَّ لحقوق الإنسان، هو الأكثر عمقاً وأصالةً والأشدّ انسجاماً وتوافقاً مع الفطرة الإنسانية، لأنه مستمدٌّ من هدي اللَّه تعالى، الذي هو رحمةٌ للعالمين.